فصل: تفسير الآيات (15- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (6- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أن رَّآهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [6- 8].
{كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أن رَّآهُ اسْتَغْنَى} أي: حقاً أن الْإِنْسَاْن ليتجاوز حده ويستكبر على ربه، أن رأى نفسه استغنت. فـ: {كَلَّا} بمعنى حقاً لعدم ما يتوجه إليه الردع ظاهراً، لتأخر نزول هذا عما قبله- على ما تقدم في المأثور- أو هو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه وإن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه. فإن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الْإِنْسَاْن فإذا قيل:
{كَلَّا} يكون ردعاً للإنسان، ينعم عليه ربه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
قال الكرخي، ومذهب أبي حيان أن كلا بمعنى ألا الاستفتاحية، وصوبه ابن هشام بكسر همزة إن بعدها كما بعد حرف التنبيه. وفي الكواشي: يجوز في كلا أن تكون تنبيهاً، فيقف على ما قبلها. وردعاً، فيقف عليها.
تنبيه:
دلت الآية على قاعدة عظيمة في باب التموّل المحمود، قررها الحكماء المصلحون، وهو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير. قالوا: لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الْإِنْسَاْن، كما نطقت به الآية الكريمة.
قال بعض الحكماء: التحول لأجل الحاجات وبقدرها، محمود بثلاثة شروط، وإلا كان حرص التمول من أقبح الخصال:
الشرط الأول: أن يكون إحراز المال بوجه مشروع حلال، أي: إحرازه من بذل الطبيعة أو بالمعارضة أو في مقابل عمل.
والشرط الثاني: أن لا يكون في التمول تضييق على حاجات الغير، كاحتكار الضروريات، أو مزاحمة الصناع والعمال الضعفاء، أو التغلب على المباحات، مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحاً لكافة مخلوقاته. وهي أمهم ترضعهم لبن جهازاتها وتغذيهم بثمراتها وتؤويهم في حضن أجزائها.
الشرط الثالث: لجواز التمول هو أن لا يتجاوز المال قدر الحاجة بكثير، وإلا فسدت الأخلاق. ولذلك حرمت الشرائع السماوية كلها، والحكمة السياسية والأخلاقية والعمرانية أكل الربا؛ وذلك لقصد حفظ التساوي والتقارب بين الناس في القوة المالية؛ لأن الربا كسب بدون مقابل ماديّ، ففيه معنى الغضب، وبدون عمل، ففيه الألفة على البطالة المفسدة للأخلاق، وبدون تعرض لخسائر طبيعية كالتجارة والزراعة والأملاك. دع أن بالربا تربو الثروات، فيختل التساوي بين الناس، كما تقدم بيانه في أواخر سورة البقرة.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} أي: المرجع في الآخرة. قال أبو السعود: تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطاغين. والالتفات للتشديد في التهديد، و{الرُّجْعَى} مصدر بمعنى الرجوع. وتقديم الظرف لقصره عليه، أي: أن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث، لا إلى غيره، استقلالاً ولا اشتراكاً، فسترى حينئذ عاقبة طغيانك. وقد جوز كون الخطاب للرسول صلوات الله عليه، والتهديد والتحذير بحاله.

.تفسير الآيات (9- 14):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [9- 14].
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى} أي: يمنعه عن الصلاة. وعبر بالنهي إشارة إلى عدم اقتداره على غير ذلك.
قال ابن عطية: لم يختلف المفسرون في أن الناهي أبو جهل والعبد المصلي النبيُّ صلى الله عليه وسلم. كما روي في الصحيحين، ولفظ البخاري عن ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو فعله لأخذَته الملائكة».
وفي الآية تقبيح وتشنيع لحال ذاك الكافر، وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضي منها العجب. ولفظ العبد وتنكيره، لتفخيمه عليه السلام، واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه. وقيل: إنه من إرخاء العنان في الكلام المنصف، إذ قال: {يَنْهَى} ينهى ولم يقل: يؤذي، و{عَبْداً} دون: نبياً، والرؤية هاهنا بصرية، وفيما بعدها قلبية. معناه: أخبرني. فإن الرؤية لما كانت سبباً للإخبار عن المرئي، أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. قاله أبو السعود.
وقال الإمام: كلمة أرأيت صارت تستعمل في معنى أخبرني، على أنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقيّ، ولكن يقصد بها إنكار المستخبر عنها وتقبيحها. فكأنه يقول: ما أسخف عقل هذا الذي يطغى به الكبر فينهى عبداً من عبيد الله عن صلاته، خصوصاً وهو في حالة أدائها.
وقوله: {أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي: أرأيت إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله، أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان، كما يعتقد؟ وجواب الشرط محذوف دل عليه ما بعده، أي: ألم يعلم بأن الله يرى. وعليه فالضمائر كلها لـ: {الَّذِي يَنْهَى} وجوز عود الضمير المستتر في {كَانَ} للعبد المصلي. وكذا في {أَمَرَ} أي: أرايت الذي ينهى عبداً يصلي؟ والمنهيّ على الهدى آمر بالتقوى. والنهي مكذب متول، فما أعجب من هذا! وذهب الإمام رحمه الله، في تأويل الآية إلى معنى آخر، وعبارته: أما قوله:
{أَرَأَيْتَ أن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} فمعناه أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة، أفما كان ذلك خيراً له وأفضل؟
وقوله: {أَرَأَيْتَ أن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: نبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون، وتولى أي: أعرض عن العمل الطيب، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ فجواب كل من الشرطين محذوف كما رأيت في تفسير المعنى وهو من الإيجاز المحمود، بعد ما دل على المحذوف بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} أي: أجهِِل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقياً على الهدى أحسن جزاءه، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته، ثم إن ما يطيل به المفسرون في المفعول الثاني لفعل {أَرَأَيْتَ} الأولى ومفعوليها في الثانية والثالثة، فهو مما لا معنى له؟ لأن القرآن قدوة في التعبير، وقد استعملها بمفعول واحد وبلا مفعول أصلاً بمعنى أخبرني. والجملة المستخبر عن مضمونها، تسد مسد المفاعيل. انتهى كلامه رحمه الله.

.تفسير الآيات (15- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [15- 19].
{كَلَّا} ردع عن النهي عن الصلاة {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} أي: عن هذا الطغيان، وعن النهي عن الصلاة، وعن التكذيب والتولي {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} أي: لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. والأخذ بالناصية هنا مَثَلٌ في القهر والإذلال والتعذيب والنكال.
وقوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} بدل من الناصية، ولم يقتصر على إحدى الجملتين، لأن ذكر الأولى للتنصيص على أنها ناصية الناهي والثانية لتوصف بما يدل على علة السفع وشموله لكل من وجد فيه ذلك. ووصفها بالكذب والخطأ، وهما لصاحبها، على الإسناد المجازي، للمبالغة لأنها تدل على وصفه بالكذب بطريق الأولى، ولأنه لشدة كذبه كان كل جزء من أجزائه يكذب. وكذا حال الخطأ، وهو كقوله:
{وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 62]، و: وجهها يصف الجمال، والتجوز بإسناد ما للكل إلى الجزء، كما يسند إلى الجزئيّ في قوله: بنو فلان قتلوا قتيلاً، والقاتل أحدهم.
لطيفة:
قال في البحر: كتبت نون {لَنَسْفَعاً} بالألف باعتبار الموقف عليها بإبدالها ألفاً. وقال السمين: الوقف على هذه النون بالألف تشبيهاً لها بالتنوين، وتكتب هنا ألفاً اتباعاً للوقف لأن قاعدة الرسم مبينة على حال الوقف والابتداء.
{فَلْيَدْعُ نَادِيَه} أي: أهل مجلسه، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين، اتكالاً على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والجملة إما بتقدير مضاف، أو على الإسناد المجازي من إطلاق اسم المحل على من حلّ فيه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.
{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} أي: زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر. ولم يرسم {سَنَدْعُ} بالواو في المصاحف باتباع الرسم للفظ، أو لمشاكلة قوله {فَلْيَدْعُ} وقيل: إنه مجزوم في جواب الأمر، وفيه نظر.
{كَلَّا} ردع للناهي بعد ردع، وزجر إثر زجر {لَا تُطِعْهُ} أي: لا تطع ذاك الطاغي إذا نهاك عن عبادة ربك. قال الزمخشري: أي: اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8]، {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} أي: صل لربك وتقرب منه بالعبادة وتحبب إليه بالطاعة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا من الدعاء».
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن الآيات نزلت في أبي جهل، على ما صح في الأخبار، قال الإمام: ولا مانع من أن يكون في الآيات إشارة إليه، ولكنها عامة في كل وقت وزمن كما ترى. والخطاب فيها موجه إلى من يخاطب لا إلى شخص النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
الثاني: قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إنما شدد الأمر- أمر الوعيد- في حق أبي جهل ولم يقع مثل ذلك لعقبة بن أبي معيط، حيث طرح سَلَى الجزور على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي- لأنهما وإن اشتركا في مطلق الأذية حال صلاته لكن زاد أبو جهل بالتهديد وبدعوة أهل طاعته، وبوطء العنق الشريف. وفي ذلك من المبالغة ما اقتضى تعجيل العقوبة له، لو فعل ذلك. وقد عوقب عقبه بدعائه صلى الله عليه وسلم وعلى من شاركه في فعله، فقتلوا يوم بدر، كأبي جهل.
الثالث: قال الإمام: ذكر الصلاة في الصورة لا يدل على أن بقيتها نزل بعد فرض الصلاة، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلاة قبل أن تفرض الصلوات الخمس المعروفة.
الرابع: قال في اللباب: سجدة هذه السورة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعيّ. فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجد عند قراءتها. يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} و{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ}» أخرجه مسلم في صحيحه.

.سورة القدر:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [1- 5].
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي: أنزلنا القرآن على قلب خاتم النبيين، بمعنى ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقد وصفت بالمباركة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3]، وكانت في رمضان، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
قال الإمام: سميت ليلة القدر، إما بمعنى ليلة التقدير؛ لأن الله تعالى ابتدأ فيها تقدير دِينه وتحديد الخطة لنبيه في دعوة الناس إلى ما ينقذهم مما كانوا فيه، أو بمعنى العظمة والشرف، من قولهم: فلان له قدر، أي: له شرف وعظمة؛ لأن الله قد أعلى فيها منزلة نبيه وشرّفه وعظّمه بالرسالة، وقد جاء بما فيه الإشارة، بل التصريح، بأنها ليلة جليلة، بجلالة ما وقع فيها من إنزال القرآن. فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أي: وما الذي يعلمك مبلغ شأنها ونباهة أمرها.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فكرر ذكرها ثلاث مرات. ثم أتى بالاستفهام الدالّ على أن شرفها ليس مما تسهل إحاطة العلم به، ثم قال: إنها خير من ألف شهر لأنه قد مضى على الأمم آلاف من الشهور وهو يختبطون في ظلمات الضلال، فليلة يسطع فيها نور الهدى خير من ألف شهر من شهورهم الأولى. ولك أن تقف في التفضيل عند النص، وتفوض الأمر، في تحديد ما فضلت عليه الليلة بألف شهر، إلى الله تعالى، فهو الذي يعلم سبب ذلك ولم يبينه لنا، ولك أن تجري الكلام على عادتهم في التخاطب. وذلك في الكتاب كثير، ومنه الاستفهام الواقع في هذه السور {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} فإنه جار على عادتهم في الخطاب، وإلا فالعليم الخبير لا يقع منه أن يستفهم عن شيء. فيكون التحديد بالألف لا مفهوم له، بل الغرض منه التكثير، وإن أقل عدد تفضله هو ألف شهر. ثم إن درجات فضلها على هذا العدد غير محصورة. فإذا قلت: إخفاء الصدقة خير من إظهارها، لم تعين درجة الأفضلية، وهي درجات فوق درجات وقد جاء في الكتاب في واقعة واحدة، هي واقعة بدر أن الله أمد المؤمنين بألف من الملائكة، أو بثلاثة آلاف، أو بخمسة آلاف، كما تراه في الأنفال وآل عمران، فالعدد هناك لا مفهوم له، كما هو ظاهر. فهي ليلة خير من الدهر إن شاء الله، ثم استأنف لبيان بعض مزاياها فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} يخبر جل شأنه أن أول عهد للنبي صلى الله عليه وسلم بشهود الملائكة كان في تلك الليلة، تنزلت من عالمها الروحانيّ الذي لا يحدهُ حد ولا يحيط به مقدار، حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم، والروح هو الذي يتمثل له مبلغاً للوحي، وهو الذي سمّي في القرآن بجبريل. وإنما تظهر الملائكة والروح {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: إنما تتجلى الملائكة على النفس الكاملة، بعد أن هيأها الله لقبول تجليها. وليست تتجلى الملائكة لجميع النفوس كما هو معلوم، فذلك فضل الله يختص به من يشاء. واختصاصه هو إذنه ومشيئته. ثم إن هذه الإذن مبدؤه الأوامر والأحكام؛ لأن الله يجلي الملائكة على النفوس، لإيحاء ما يريده منها. ولهذا قال: {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي: أن الله يظهر الملائكة والروح لرسله عند كل أمر يريد إبلاغه إلى عباده، فيكون الإذن مبتدئاً من الأمر على هذا المعنى. والأمر ها هنا هو الأمر في قوله:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4- 5]، فالكلام في الرسالة والأوامر والأحكام، لا في شيء سواها، ولهذا قال بعضهم: إن من ها هنا بمعنى الباء، أي: بكل أمر. ولا حاجة إليه لما قلنا. وإنما عبر بالمضارع في قوله:
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} وقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدأ نزول القرآن لوجهين:
الأول: لاستحضار الماضي لعظمته على نحو ما في قوله: {وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214]، فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويراً.
والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام كان فيما بعد، فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر في مستقبل الزمان حتى يكمل الدين. وقوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: أنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى. والإخبار عنها بالسلام نفسه- وهو الأمن والسلامة- للمبالغة في أنهُ لم يَشُبْها كدر، بل فرَّج الله فيها عن نبيه كل كربة وفتح له فيها سبل الهداية، فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيامَ والشهور الطوال.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدأ فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ولا إجماع في تعيين تلك الليلة، بل في صحيح البخاري: أنها «رفعت». أي: رفع العلم بتعيينها. وفي رواية فيه: «نسيتها أو أنسيتها»، من قوله صلوات الله عليه. ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه. نعم الأقوى رواية أنها في «العشر الأخير من رمضان» لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه وإحياء ليله وإيقاظ أهله. وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين، قال ابن حجر: وحجتهم حديث واثلة: أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان. وقد اضطربت أقوال السلف فيها- صحابة ًومن بعدهم- حتى أنافت على أربعين قولاً.
قال الإمام: ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان، ولا نعيّنها من بين لياليه. فقد اختلف فيها الروايات اختلافاً عظيماً، وكتاب الله لم يعينها، وما ورد في الأحاديث من ذكرها، إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة، شكراً لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم، في أثنائها. ولهم أن يعبدوا الله فيها أفراداً وجماعات، فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها، ومن أراد أن يوافقها على التحقيق، فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله. وهذا هو السر في عدم تعيينها. وتشير إليه آية البقرة فإنها تجعل الشهر كله ظرفاً لنزول القرآن، ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه، فهي ليلة عبادة وخشوع، وتذكر لنعمة الحق والدين. فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء، يتسابق إليها المنافقون ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون، كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام، فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه، ويسمعون شيئاً من كتاب الله لا ينظرون فيه ولا يعتبرون بمعانيه، بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه، ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره، ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره، ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال، فضلاً عن الراشدين من الرجال. انتهى.
وقال الطبريّ: إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة؛ إذ لو كان ذلك حقاً، لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلاً عن ليالي رمضان.
الثاني: حكى الحافظ ابن جحر في فتح الباري قولاً عن بعض العلماء، أن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل مستنده ما صحّ أنها «رفعت». وقد قدمنا معناه، ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه. وعندي أن لا تنافي؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن وما كان فيها من التجليّ الخاص التي انفردت به، وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام، هي ليلة فيها مزية على غيرها، بفضل اختصت به دون غيرها. وهذا هو السرّ في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه. أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركاً وتيمناً وشكراً لله تعالى على تلك النعمة والهداية، فالقائم في ليالي العشر الأخير، أو في رمضان، مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة؛ لأنها منه قطعاً. وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسماً للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخَر في تذكاراتهم وجعلها أعياداً، تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو، مما ينافي حكمة ذكراها، فتأمّل الفرق واحمد الله على اتباع الحق.
الثالث: قال الإمام: ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة، وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك، ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك لم يرد؛ لاضطراب الروايات، وضعف أغلبها، وكذبِ الكثير منها. ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد. ومثل ذلك يقال في بيت العِزّة، ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة، فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين، لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كنا من الذين {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} [الأنعام: 116] نعوذ بالله. وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة، مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ويُعدّ من عقائد الدين، وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل، فاحذر أن تقع فيها مثلهم، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.